استراتيجية إسرائيل لغزة- نزع السلاح، السيطرة، والمقاومة خط أحمر

المؤلف: د. محسن محمد صالح09.06.2025
استراتيجية إسرائيل لغزة- نزع السلاح، السيطرة، والمقاومة خط أحمر

تتبنى إسرائيل إستراتيجية متعددة الأوجه تجاه قطاع غزة، تتوزع على ثلاثة مستويات رئيسية: مستوى طموح، ومستوى متوسط، ومستوى أدنى، وذلك تبعًا لإمكانية تحقيق كل منها. والهدف المشترك بين هذه المستويات الثلاثة، وهو بمثابة الحد الأدنى الذي تسعى إليه إسرائيل، هو تجريد غزة من السلاح والقضاء على نفوذ حركة حماس بشكل كامل.

يهدف المستوى الأعلى من هذه الإستراتيجية إلى احتلال قطاع غزة بشكل كامل، وتهجير سكانه قسرًا، وضم القطاع أو أجزاء منه إلى الأراضي التي تسيطر عليها إسرائيل، وإعادة إحياء مشاريع الاستيطان، وفرض حكم مباشر أو غير مباشر على القطاع.

ويتضمن هذا المستوى ضمنيًا القضاء التام على حركة حماس، ونزع أسلحة الحركة وباقي فصائل المقاومة. ويحظى هذا الطرح بتأييد واسع في أوساط اليمين المتطرف والتيارات الصهيونية الدينية في إسرائيل. كما أنه مدعوم بغطاء أميركي، حيث دعا الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، مرارًا إلى تهجير سكان قطاع غزة.

أما المستوى المتوسط، فيتضمن الإبقاء على نقاط سيطرة إسرائيلية داخل القطاع، والتحكم الظاهر أو الخفي في المعابر الحدودية، وفرض السيطرة الجوية الكاملة على أجواء القطاع، مع إمكانية تنفيذ عمليات اقتحام وضربات عسكرية محددة، على غرار ما يحدث في الضفة الغربية. كما يتضمن هذا المستوى حكم غزة من خلال قوات عربية ودولية، أو عن طريق سلطة رام الله، ولكن وفقًا لمعايير إسرائيلية. ومع ذلك، يتم استبعاد فكرة التهجير والضم والاستيطان، ويتم تسهيل إدخال الاحتياجات الأساسية إلى القطاع، والسماح بقدر محدود من مواد إعادة الإعمار. بالإضافة إلى ذلك، يتم وضع برنامج مكثف لنزع أسلحة المقاومة، وإبعاد حركة حماس عن المشهد السياسي وإدارة القطاع.

ستسعى إسرائيل جاهدة لتحقيق ما يمكن تحقيقه من الأهداف الموضوعة في المستويين الأعلى والمتوسط، وذلك وفقًا للتطورات الميدانية والمعطيات المتوفرة على أرض الواقع. ومع ذلك، ستستخدم إسرائيل هذين المستويين كأدوات تفاوضية للضغط على المقاومة، في حال استمرارها في عملياتها. وتهدف إسرائيل من ذلك إلى الوصول إلى الحد الأدنى الذي تسعى إليه، مع محاولة إيجاد بيئات ضاغطة دولية وعربية وحتى فلسطينية داخلية (خاصة من جانب سلطة رام الله والمؤيدين لها). وقد تحاول إسرائيل أيضًا المراهنة على إثارة احتجاجات ضد المقاومة في قطاع غزة نفسه، والسعي لتوسيع نطاق هذه الاحتجاجات، بحيث تتضافر جهود سياسية وإعلامية عربية ودولية لإظهار حماس وكأنها الطرف المتعنت والمعرقل للاتفاق، والمسؤول عن معاناة سكان القطاع.

كما ستحاول إسرائيل تقديم وقف الحرب والانسحاب من قطاع غزة، ووقف مشروع التهجير، والتخفيف الجزئي للحصار، والسماح لإدارة فلسطينية (تكون على شاكلة سلطة رام الله) بالعودة إلى القطاع، باعتبارها "تنازلات" إسرائيلية كبيرة. وبالتالي، ستحاول إسرائيل "تمرير الصفقة" على حماس، وربط إنهاء الحرب والانسحاب الكامل من القطاع بموافقة حماس والمقاومة على نزع أسلحتهما، والانسحاب من المشهد السياسي والمؤسسات الفلسطينية.

يكمن الخطر في هذه الإستراتيجية في سعي إسرائيل إلى تحقيق هدفها الأساسي من الحرب، مع محاولة إظهار ذلك في الوقت نفسه كمطلب عربي ودولي، وكأنه "إنجاز" وطني وقومي للدول العربية التي طبعت علاقاتها مع إسرائيل وترفض التهجير، والتي تتفق في الوقت نفسه مع الإسرائيليين والأميركيين في العداء للمقاومة وتيار "الإسلام السياسي". كما تهدف هذه الإستراتيجية إلى إظهار سلطة رام الله وكأنها البديل القادر على إنهاء معاناة الفلسطينيين.

أبرز عناصر الإستراتيجية الإسرائيلية

من خلال التحليل الموضوعي لما صدر عن الجانب الإسرائيلي من تصريحات ومواقف، ومن خلال مراقبة سلوك نتنياهو وحكومته وجيشه على أرض الواقع، يمكن استخلاص النقاط التالية كأبرز أسس الإستراتيجية الإسرائيلية في التعامل مع قطاع غزة ومستقبله:

  • السعي لاستعادة الصورة التي اهتزت للاحتلال الإسرائيلي، نتيجة الضربة الموجعة التي تلقتها نظرية الأمن الإسرائيلي في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وفقدان قوة الردع، وتزعزع ثقة المستوطنين الصهاينة في قدرتهم على توفير الأمن لهم.
  • محاولة إعادة تقديم الدور الوظيفي للاحتلال، كقاعدة متقدمة وذراع قوية للنفوذ الغربي في المنطقة، وكقوة قادرة على حماية مصالح دول التطبيع العربي في صراعها مع خصومها في المنطقة.
  • محاولة إلحاق أقسى ضرر ممكن بالشعب الفلسطيني في قطاع غزة وبالمقاومة، عبر استخدام القوة المفرطة وارتكاب المجازر البشعة ضد المدنيين، والتدمير الشامل للمنازل والبنى التحتية والمؤسسات الرسمية والمدارس والمستشفيات والمساجد والكنائس والمزروعات وآبار المياه، دون الالتفات إلى أي معايير قانونية أو أخلاقية أو سياسية، بهدف ترسيخ "عقدة" تمنع تكرار هجوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول.
  • استغلال حالة الحرب لفرض تصورات "اليوم التالي" لحكم القطاع، وفقًا للمعايير والضوابط الإسرائيلية.
  • السعي للاستفادة من حالة الحرب، لتمرير وتسريع مشاريع التهويد والتهجير في الضفة الغربية وقطاع غزة.
  • السعي لتوسيع المفهوم الأمني الإسرائيلي، ليشمل في إطاره الرادع الفعال المحيط الإستراتيجي للكيان الصهيوني، لضمان استقرار الكيان واستمراره، حتى بعد إغلاق الملف الفلسطيني، وهو ما سبق أن أشار إليه نتنياهو مرارًا وتكرارًا.
  • رفع سقف المطالب التفاوضية مع المقاومة إلى مستويات عالية جدًا، حتى وإن كان من غير الممكن تحقيقها، بهدف استخدامها كأدوات ضغط، وتوظيفها في العملية التفاوضية.
  • محاولة التقليل من تأثير قضية الأسرى الإسرائيليين على الأثمان المدفوعة للمقاومة قدر الإمكان، سواء بمحاولة تحريرهم بالقوة، أو بإطالة أمد المفاوضات عليهم، أو بالتركيز على المكاسب المحتملة من استمرار الحرب، ولو تسبب ذلك بخسارة المزيد من الأسرى.
  • الاستفادة من النفوذ والدعم الأميركي قدر الإمكان، في المحافل الدولية ومجلس الأمن، وفي البيئة العربية، وفي دور الوسيط، وفي مجالات الدعم السياسي والعسكري والاقتصادي والإعلامي.
  • الاستفادة قدر الإمكان من الضعف والخذلان العربي، وتقاطع مصالح عدد من الدول العربية مع التوجهات المعادية للمقاومة ولتيار "الإسلام السياسي"، وكذلك الاستفادة من عدم فاعلية المنظمات الدولية وفشلها، لتمرير الأجندة الإسرائيلية.
  • إطالة أمد الحرب قدر الإمكان، سعيًا لتحقيق أكبر مكسب ممكن ضد المقاومة، وكذلك للحفاظ على تماسك الائتلاف اليميني المتطرف الحاكم في إسرائيل، وتمرير أجنداته الداخلية، والتملص من المساءلة والمحاسبة.
  • تعمد إخفاء الخسائر الحقيقية للجيش الإسرائيلي، واختلاق الأكاذيب حول إنجازاته، ومحاولة التعتيم على حالات التهرب الواسعة من الخدمة في صفوف قوات الاحتياط، والأزمات المرتبطة بالتجنيد وغيرها، سعيًا للحفاظ على بيئة داخلية مؤيدة للحرب.
  • تعمد نقض العهود والاتفاقات مع المقاومة، واستخدام ذلك في الابتزاز العسكري والسياسي والاقتصادي، والاستفادة من حالة الإنهاك والمعاناة في القطاع، لتشديد الحصار وتحقيق مكاسب إستراتيجية وتفاوضية، على حساب المقاومة.

نزع سلاح المقاومة

تزايد الحديث في الأيام الأخيرة عن ربط ترتيبات "اليوم التالي" في قطاع غزة بنزع أسلحة حماس وإخراجها من المشهد السياسي، وتحدث عن ذلك قادة أوروبيون، مثل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، على الرغم من إبدائه حماسة لحل الدولتين والاعتراف بالدولة الفلسطينية.

كما حاول بعض المحسوبين على سلطة رام الله استغلال المعاناة الهائلة التي يعيشها سكان قطاع غزة، لتوجيه الغضب نحو حماس وفصائل المقاومة وتحميلها المسؤولية عن هذه المعاناة، بدلًا من الاستمرار في تحميل الاحتلال الإسرائيلي مسؤولية عدوانه وجرائمه.

وقد أدى التصعيد الإسرائيلي بخرق الهدنة، وتشديد الحصار على القطاع، ومنع دخول أي من الاحتياجات الضرورية، إلى عدوان دموي ومجازر وحشية كان معظم ضحاياها من النساء والأطفال. كما أعاد الاحتلال احتلال أجزاء من القطاع، مع إعادة تهجير أعداد كبيرة من سكان القطاع المنهكين أصلًا والمستنزفين في دمائهم وأموالهم ومساكنهم، لرفع وتيرة الضغط إلى مستويات لا تطاق، مع إعادة الترويج لأجنداته بسقوفها العليا.

إلا أن المقاومة الفلسطينية فاجأت العدو مرة أخرى بتفعيل قدراتها العسكرية المؤثرة، وشن حملة سياسية موازية تؤكد تمسكها بثوابتها، وفي الوقت نفسه إبدائها مرونة قصوى في ملفات تبادل الأسرى وغيرها، بما يحمي دماء الشعب الفلسطيني، وينهي الحرب، ويضمن الانسحاب الإسرائيلي الكامل من القطاع.

سلاح المقاومة خط أحمر

في ظل هذه الإستراتيجية "الصفرية" التي يتبناها نتنياهو وحكومته المتطرفة، لا تبدو هناك أي علامات حقيقية على قرب انتهاء الحرب والانسحاب الكامل من قطاع غزة ورفع الحصار (أو على الأقل إعادة الوضع إلى ما كان عليه قبل 7 أكتوبر/ تشرين الأول)، وفتح المجال لإعادة الإعمار، إلا إذا صمدت المقاومة الفلسطينية وواصلت استنزاف الجيش والاقتصاد والأمن الإسرائيلي، والدفع نحو إيجاد بيئات داخلية إسرائيلية أكثر قوة وضغطًا، ورفع الأثمان التي يدفعها الاحتلال إلى مستويات لا يستطيع تحملها.

وقد حققت المقاومة شوطًا كبيرًا في هذا الاتجاه، مع تزايد المأزق الإسرائيلي، خاصة بعد استئناف المقاومة عملياتها النوعية، واعتراف رئيس الأركان الإسرائيلي، إيال زامير، بأن الحرب في غزة قد تستغرق شهورًا أو سنوات.

كما أن طبيعة ترامب المندفعة والمتغيرة والمتطلبة للإنجاز السريع لا تمنح نتنياهو وقتًا مفتوحًا لاستمرار الحرب، في ظل حاجة ترامب لتحقيق اختراقات في ملفات التطبيع في المنطقة، وفي الملف النووي مع إيران. ويترافق ذلك مع بيئة عربية مضطربة تحمل بوادر التغيير والانفجار، وبيئة دولية تآكل فيها الدعم لإسرائيل إلى أقصى حد، حتى في محيط حلفائها الأوروبيين.

في ظل هذه الظروف، ليس أمام المقاومة الفلسطينية ترف الاختيار، وعليها خوض هذه المعركة "الصفرية" التي تستهدف اقتلاع الشعب الفلسطيني وقضيته. وبالتالي، يظل الرهان على المقاومة وسلاحها شرطًا أساسيًا وخطًا أحمر في مواجهة الاحتلال وإفشال مخططاته.

والتجارب التاريخية على مدى أكثر من مائة عام تشهد بأن الشعب الفلسطيني تمكن من إفشال عشرات المشاريع التي استهدفته، وهو قادر أيضًا، بعون الله، على إسقاط هذه الإستراتيجية وعلى إفشال هذا العدوان.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة